الجمعة، 22 أكتوبر 2010

تكست - العــدد السابع : فضاء الخلوة - كتب د. اسعد الاسدي

فضاء الخلوة

* د أسعد الأسدي

في البيوت ، يحشره البعض أسفل السلم ، وحيدا في انتظار قادم وحيد . أو قد يدلف اليه بريق الجدران الصقيلة ، وضباب الزجاج المعتم ، وتشغله سعة مرفهة من الفضاء ، تأذن لك أن تلهو ، بك وبأشيائك . وقد تصادفه في مبنى عام ، يجاور شاغليه عزلة لصق عزلة . او قد تقودك اليه الضرورة ، في تيه فضاء قصي او في بعض جدار او بقية سقف ، كي تختلي بعض الوقت رفق جسد ثقيل مضطرب .

في كل نية لفعل انساني يستدعي مكانا تنبت العمارة ، حتى في بعض العمارة أو في ضعف حالها او في محض بقيتها .

********

لم يكن ليطمئن لحضوره في مكان قبل ان يجد طريقه الى فضاء الخلوة . اذ وهو يدخل مبنى جديدا ، تجده يدور في غرفه وممراته باحثا متلهفا قلقا ، حتى اذا دلف الى فضاء بجدران لامعة ، تتوزعه مخادع صغيرة قد لاتبلغ جدرانها السقف ، تراه يقف وسط الفضاء هادئا متماسكا ، ثم يفتح صنبور الماء اذ يلقى وجهه باسما مطمئنا في صفحة المراة التي يصادفها معلقة الى الجدار . بعد ذلك يمكن ان يعود وسط الاخرين ، يشاركهم افعالهم وحواراتهم ويكون له ان يؤدي التزاماته المأمولة ، اذ هو في حال مطمئنة الان ، حتى اذا داهمته الحاجة الى الخلوة فأنه سوف لا يتيه او يحار ، لأنه بات يعرف طريقه الى مايريد . ان العمارة ، في ان تجد الوقت الذي تنفقه رفق الأمكنة .

*********

ذات نهار ، كان يعبر وصديقه المسافة بين مدينتين ، وقد بلغا ضرورة التوقف ودخول مبنى طينيا خربا ، تتوزعه فضاءات خلوة منزوعة السقف ، معزولة بجدران قصيرة لاتباري طوله ، تغلقها دون احكام ابواب معدنية ، يعبرها الضوء في ثقوب عديدة تتوزع جسدها المتلوي والمتغضن . دخل خلوته الى جوار خلوة صديقه . كان يحل في المكان الهدوء ، غير ان اصوات بدائية بدأت في الحضور ، ترافقها كلمات قليلة منحازة الى الصوت وهو يعبر مديات السكون ، اعقبتها ضحكات قصيرة امتدت الى نوبة من المرح ، مرح مديد وضحكات بقهقهات مجلجلة لا يمنعها من العبور جدار ، ولا يصدها عن الوصول سقف ، تقطعها كلمات نادرة وخاصة ، حتى استحال تجاور الصديقين في فضائي الخلوة المرحين ، وعواقب ذلك من الضحك وتبادل الكلمات ، استحال منفذا الى تقارب شخصيهما ، وتكشف له لاول مرة ، ان صديقه الذي يعرفه طويلا ليس محض ثرثار ، بل وطريف ايضا ، ولا يتهيب عبور الحدود . كانت دقائق ثرية بتقارب وصراحة وتنافذ بينهما ، لم يتح قبل ان يدلفا هذه البناية الخربة ، التي تعد بالخلوة دون ان تراعي حشمة ايواء فعالية خاصة ، قاصدة طرافة الفعل والتنحي عن خصوصيته ، الى المزيد من الود الاجتماعي والتقارب ، بتأثير الصراحة التي يضطرك اليها فضاء خلوة يسيء فهم الخلوة ، ويرفع عن المخادع السقوف ، في عمارة تتقاعس عن اكتمال مبناها الى فضاء قليل العزلة ، يدعوك الى مغادرة الصمت وتجلية القهقهات .

*********

وقد تكون خلوة في فضاء مفتوح ، دون جدران وابواب وسقوف ، ولكن ثمة غمامة من الظلمة تستر اجساد الادميين القريبة من بعضها ، وهم يتبادلون بعض الكلمات التي لا تعوزها الطرافة ، رفق دوران ابريق الماء تلوكه الاكف العديدة ، تفرغه من الماء في صوت خرير لعوب ، في الليل الذي يحمي الخلوة ، اذ يلم الاجساد المشغولة بالتحرر من اعباء الدفأ الذي يغادر في هدوء وصمت ، غير ان اصوات الحوار الحميم تقطع حجاب الصمت ، الى كركرات واصوات حروف ممدودة لاهية . الزمان هو ايضا مادة العمارة وليس محض المكان .

**********

تدخل مرة فضاء خلوة صغير لا تربو مساحته عن متر مربع واحد . باب يفتح الى الخارج ، ثم فضاء بسعة فعل الخلوة ، لايزيد عن فرصة للجلوس . الجدران المحيطة بك قريبة ، مطلية بلون هاديء ، تغلف بعض مساحاتها مربعات خزفية صغيرة ، بألوان قزحية جميلة . الباب الصامت بلون داكن ومقبض ذهبي لامع ، تمسكه وتتلذذ ببرودته ، اذ هو قريب من وجهك . صنبور الماء يصب في حوض مرمري ابيض يعلو رأسك . ويأتيك في هدوء صوت مروحة الهواء الصغيرة ، وهي تمكث في السقف القريب كي تأخذ بأنفاس الفضاء الى أعلى . كل الاشياء قريبة منك وواضحة في فضاء يسكنه الهدوء ، تميزه نظافة ملفتة تجعله مقبولا وكأنه مكان خاص بك لم يدخله سواك ، اذ لا أثر لمستخدم اخر سبقك الى هذا المكان



.

تحميك مساحة الخلوة المقتصدة حد الكفاف ، من ان يحاذيك تطفل ما يمكن ان يعبث بخلوتك ، فالمكان لايتسع سوى لخلوتك ، لا فضاء لأيواء شيء اضافي او صوت او كلام ، فضاء لا يأذن بسوى الفعل ، في صمت يبدي احتراما لكفاف الفضاء واحاطته للجسد بحميمية ودفأ . يقودك الى قبول ضيق المكان حاجتك اليه ، اذ هو يؤمن تلك الحاجة ويعتاش على ايوائها ، وانت لا تدخل هكذا مكانا قبل ان تدعوك الحاجة اليه .

انت في خلوة وفي عجلة من امرك ، لا وقت لديك لملاقاة جدران طويلة وعالية ، ولا الركون الى فضاء كبير . تكفيك اشياء قليلة ، وركن صغير من مكان بسعة برهة زمان الخلوة ، تغادره بعدها الى رفاهية الامكنة وسعة الشوارع ، وقد عدت خفيفا متحررا من جديد . ان العمارة هي في ضيق المكان كما هي في سعته .

*********

فقد يتسع فضاء الخلوة في وضوح ، لتتقاسمه جدران من الواح زجاجية نصف شفافة ، تحيل المكان الواسع امكنة متجاورة ومتقابلة ، تستحضر أشياءا مرمرية بيضاء فاخرة ، ومرايا بسعة الجدار ، ونافذة عريضة تتوزع مساحتها زجاجات ملونة ، تتلوى على جانبيها قماشة الستائر البيضاء الانيقة . وعلى مدى سعة هذا الفضاء فأنه يبقى فضاءا شخصيا ، يحضر فيه صوت جميل ، وكلمات عتاب لجسد حزين متهدل ، يلتصق بالجدار وهو يمد قدمين نديين ، يمسحان برودة الرخام الرصاصي اللامع . ليس للجمال ، كما يبدو ، ان يغادر المكان حتى وأن دخلته وحيدا .

*********

وانت هناك في فضاء الخلوة ، سعة وصفاء وجدران من مرايا ، أينما تدور يتاح لك ان تلتقي جسدك .

*أكاديمي عراقي



العــــودة للصفحــة الرئيســــة - العدد السابع



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق