الجمعة، 22 أكتوبر 2010

تكست - العدد السابع: قراءة في كتاب " التحليل السيميائي للخطاب "


قراءة في كتاب " التحليل السيميائي للخطاب "

للدكتور ناصر الأسدي

*د. محمد الأسدي

يتشظى الخطاب النقدي العربي المعاصر إلى فرقتين مقاومتين ـ بالمستوى الأيديولوجي ـ ينهض بتمثيل الفئة الأولى منهما الخطاب الإشاري الخاضع لعادات المراقبة والمعاقبة المنطقية والاحتكام إلى الرصد الفيزياوي للظواهر والأشياء ، وهو خطاب يمكن له أن يكون منتجاً وفاعلا في زمن الكتابة الأفقي في حالة واحدة : وهي حين يجمع بين ما تسعى إليه الحصافة العلمية باستمرار من توطيد الانضباط في النشاط الدلالي لعلامات الخطاب التحليلي القادمة من خارج النص إلى داخله على جسر منهجي مفترض الصحة وواجب الوجود ، وبين ما يتيحه التخفيف من سطوة المسار المحدد سلفا ، وتفكيك لوغوس الانغماس الآلي بالمثال ، وهو ما لا يحققه بكفاءة سوى القلة من أبدال ومُريدي الفرقة الثانية .

نرى أن لكل واحدة من هاتين الفرقتين محاسنها وهناتها ، وأن التنافذ المثالي مع المقروء لا يمكن أن يتحقق إلا بالجمع بين محاسن الضدين نحو جعلهما بنية مركبة واحدة ، والتنحي عما في كل منهما من هنات وعثرات كؤود تهوي بالقارئ والمقروء من شاهق .

إن مقاربة مثالية للنص الأدبي تتطلب تحقيق التنافذ ، ونعني به بنية منتظمة تنتجها عناصر معرفية متضادة .

تقدم لنا بنية التنافذ ترسيمة رمزية لنشاطات تداولية منخرطة نصياً في دراما كونية تؤلف بين ما يتجلّى في أحلام يقظتنا البدئية خارج حقيقته المادية البائسة والعادية جدا : مضيئاً وسخياً بالوضوح ورخيَّ الانفعال ، وبين ما ينتمي باستمرار إلى ما هو ميت ومعتم .

وفي مماثلة جدلية محايِثَة ، يمكننا أن نبني على فكرة الاستنطاق السيميائي للمرسلات ما نشيد به ملامح القناع المجازي للترسيمة السابقة بالحرية المجنحة لما هو غير منطقي غير أنه قادر على أن يحقق الإقناع الجمالي بكفاءة ، و عما هو صارمٌ وشديد المحاسبة لكينونة الكتابة حد التخلي عن أفق من الاحتمالات الجمالية المحتملة والمتاحة أمام ما يحيط به مجهر منطقي واحد .

وقد التفت الأقدمون إلى ما يجلبه الازدهار المنطقي للمِسبار الأدبي من خسارات جمالية وإبداعية فالنص الأدبي الانقلابي لا يمكن أن يكون أبدا من سلالة الملائكة ، إنه كائن رجيم وعاق ولامنتمٍ ، محتفٍ بالجنون والغيبوبة ، ولا يمكن أن نتخيل نصا أدبيا ممتعا ومفيدا من النوع الوديع ، فالنصوص الشرسة والنزقة والمتمردة هي التي شغلتنا دائما منذ أن كنا نصغي إلى امرئ القيس حين كنا أشباحا طينية هائمة في جزيرة العرب ، وحتى صرنا نصغي إلى بودلير ولوركا والسياب والماغوط في عصر انقراض الانسان وسيادة المخلب الرقمي .

إن نصاً رمزيا مُقَنَّعاً ذا عمقٍ معرفي لا يمكن أن نقضي عليه بطريقة أسرع من إخضاعه لفحوصات المجهر المنطقي ، وحينها سنصيب النص في مقتـلٍ وسنقضي على القيمة التداولية للقراءة .

كنت متوجساً وأنا أتصفح الأسطر الأولى من أن أفقد القدرة على الركض في سيرورة الخطاب متلقّيا محايِداً بعد الجولة الأولى ، وأن يكون ما حدثنا عنه صديقنا الناقد حول مشروعه السيميائي دون ما يحققه في مغامرة الكتابة وحفريات المعرفة ، ولكن سبر أعماق مشروعه يؤكد أنه يتخطى حديث النفس العابر إلى حيز الواقع والمُنجَز المتحقق على أرضية صلبة في جغرافيا الكتابة النقدية ، تنهض بها إحاطة كافية بأدوات التنافذ مع جيولوجيا النص وأعني بها فلسفة قرائية تتجلى بوصفها منظومة معرفية اختراقية لصلادة المقروء ، تتعالق مع آليات الحفر المعرفي المناسبة لطبقات العمل ، ويمكن أن تجترح منطقة اشتغالها القرائي وفقا لفلسفة القراءة التي يتبناها المُتَنافِذُ مع النص ، وهي منهجية نقدية تؤدي عملها الاشتغالي في مجهوليات صلادات السطوح بالرغم من حفاوتها بالمِران الحركي من خلال استهداف بؤرة الاختراق ونعني بها انتخاب المنطقة الأكثر صلادةً والأكثر بروزا واستقراراً في جيولوجيا النص لإنجاز الاختراق نفاذا إلى باطن الطبقات المحتملة وهو ما يتيح للمسبار المُتَشَوِّف التجوال الحر في أعماق النص نحو تحقيق تَنافُذٍ أكثر اكتمالاً فيما نرى .

يبين لنا الناقد في تقديمه لمقاربته بأنه قد انتخب المنهج السيميائي لأنه وجد فيه أكثر المناهج كفاءةً وقدرة على التعالق مع النصوص نظرا لاعتماده آليتي المحايثة والاستبطان الكاشفتين عن الدلالات عبر اختراق الشفرات .

ويبين لقارئه أن اختياره النصَّ المُقَفَّعِيَّ من دون سواه لم يكن وليد المصادفة وإنما كان وليد " قناعة في قدرات الرجل الفنية الإبداعية المتفوقة وعلى نحو خاص في حكايات كليلة ودمنة ذات الشهرة الواسعة " وقد أخذ في مقاربته بفرضية البنية الرمزية للسرد المقفعي في تلك الحكايات رادا بواعثها إلى " أحداث جسام دعته لتأليف هذا المنتج على لسان الحيوان ليضمن تنصله في الرد على ثوابت الرواية ، وإيصال خطابه إلى المرموز لهم بأقل قدر من الضيق والخطر " .


إنَّ ضيق الأفق في قطيعته المعرفية قد فجر في كينونة ابن المقفع المنتجة القدرة على إحالة البنية التأريخية إلى بنية رمزية مرتقيا بالحكاية إلى توصيف إجناسي جديد لم تكن بلغَتْه حتى عهده ، فقد كانت السرديات العربية الحكائية ملقىً بها خارج جنة الأجناس الأدبية المحترمة في منظور البداوة ، فلم تكن تمتلك من المقومات الجمالية في ذلك المنظور ما يتيح لها أن تلتحق بأصول الأنواع الأدبية الوثنية ، أما على يد ابن المقفع فقد غدا السرد مغامرة كتابية لا تقل عن الشعر خطورة وفاعلية وخلقا للزمن المعرفي الآتي ، وهي التفاتة قرائية نافذة يضع بها الناقد " مواطنه " المبدع في موضعه المستحق من تراتبية السرد العالمي لا العربي فحسب ، إن أهمية هذه المقاربة تعود إلى إثبات السبق العربي في الترميز الحكائي في زمن متقدم على أزمنة الترميز الحكائي الغربي بقرون لا بسنين عددا ، فالملاحم اليونانية التي عدت أصلا في نشأة الرواية تبدو أكثر نأيا عن زمن السرد الحديث من سرديات كليلة ودمنة ، وإذا كان الأمر بأسبقية كهذه ، فلماذا لا تكون ملحمة جلجامش مثلا ـ وهي أقدم بكثير من أية رواية ملحمية معروفة ـ هي الأصل النوعي في حقول النشوء والارتقاء الإجناسي للسرديات ، إن هذا كله يؤكد حديث الناقد في مستهل مقاربته عن " كون العرب أمة غمط حقها وراء شعور الغرب بالأفضلية في كل الجوانب وخاصة في مجال السرديات " ، وإن ما قدمه من استبطان متأنٍّ وخلاق لمفاصل هذه الفرضية تعالقا مع النصوص عبر التوظيف الفعال لخطاطة غريماس . قد امتلك من مقومات الإقناع والتوكيد للبواعث الجدلية للمقاربة الشئ الكثير ، آخذا ـ مع الحفاوة بالمنهج ـ بنظر الاعتبار أن " المنهج لا يمكن أن يكون وصيا علينا .. مدركين أن النصوص العربية تمتلك القدرة مع أحدث المناهج التي تعمل مع اللغة والأدب والحياة والعلامات والإشارات واللغات والشفرات " .


لا يمكن لهذه العجالة أن تحيط المتلقي علما بكل تفاصيل الكتابة النقدية الإبداعية التي تحلى بها المؤلف ، فصفحات " التحليل السيميائي للخطاب " كفيلـة بأن تغذي وعي المتلقي بأدب العمق ، وتغمسه في ينابيع المعرفة الجديدة بالنص .

*أكاديمي عراقي



العــــــــــــــــودة للصفحـــة الرئيســــة - العـــــدد السابـع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق