وقائع موت مستمر
فرات صالح
(1)
ـ طز فيك وفي الوظيفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ هذا مالم يقله السيد صابر عبد الله مدير مدرسة القائد الملهم الابتدائية للبنين لمدير تربية المحافظة لا بسبب أخلاقه الصارمة فحسب بل لعلمه التام بأنه لو قال ذلك ففي أحسن الاحوال سيلحق بأبنه الذي أصبح منذ ثلاثة أيام في عداد مجهولي الإقامة ، وبقيت عيناه معلقتين بالمسدس اللامع في خاصرة المدير والذي كان يبدو متناغماً جدا مع غمده الجلدي وبدلة المدير زيتونية اللون وفي الوقت نفسه كان يجاهد لطرد فكرة ألحت عليه عن العلاقة بين المسدس والتربية.
وهو يفتح اضبارة البريد رفع المدير يده في اشارة واضحة الى انتهاء المقابلة وعدم استعداده لسماع أي جديد.
ـ شكراً أستاذ. قال السيد صابر وهو ينهض من الكرسي الفخم وخرج حاملاً أمر إحالته إلى التقاعد تلاحقه ضحكة مستهترة يطلقها القائد في صوره الموزعة بابتذال على جدران المكتب ومناضده . بينما كانت الشتائم واللعنات التي لم يطلقها تفور في جوفه مثل تنور عظيم.
(2)
مثل فريسة حدّق السيد صابر عبد الله في وجوه أعضاء اللجنة المحيطين به كاسود جائعة ، كان عليه أن يتذكر كل التفاصيل وأن يجيب عن اسئلتهم المباغتة بكل دقة . لكن كثيراً من التفاصيل والأسماء والمواقع تاهت منه السنوات التي مرت ثقيلة كرصاص ذائب. فكر في نفسه كيف يمكن لهؤلاء الذين كانوا سجناء مثله أن يتذكروا كل الاحداث وكل الأسماء ويسألون عن تفاصيل صغيرة يبدو أن أي خلل في تذكرها أو في سردها سيحرمه من قناعة اللجنة وبالتالي من الراتب الضئيل الذي ما زال منذ سنوات يمني نفسه بالحصول عليه ليضمه الى راتبه التقاعدي الذي يستلمه مرة كل ثلاثة أشهر ليسلمه الى الدائنين. كيف يمكن لهؤلاء أن يتخيلوا ولو للحظة واحدة انه كاذب؟ هل يمكن أن تكون سياط الحراس وشتائمهم البذيئة والتحقيق الدموي وعصابات الأعين والصفعات والجوع والبرد القارس والعصي وصعقات الكهرباء وصفيحة الغائط والقمّل والحرارة الخانقة مجرد أوهام ؟ وهل يمكن أن يخترعها أي أحد من أجل الحصول على مكسب زهيد مثل هذا الراتب الموعود ؟ أحس بنفسه يتضاءل في كرسيه بينما شتيمة كبيرة تدور في صدره مثل إعصار من سكاكين حادة.
(3)
كل ذلك مر في ذهن السيد صابر خلال لحظات وهو يحدق مندهشاً في فوهة المسدس المندفعة بين عينيه ، وفي العينين الغاضبتين لصاحب المسدس ووجهه المكفهر حتى انه فكر في اللحظة ذاتها كيف يمكن لعيني انسان ان تختزنا كل هذه القسوة المفرطة . وهل يمكن للحقد والغضب والكبت والعنف أن تمتلك القدرة على تغيير ملامح انسان ما ؟ ثم لماذا لم يلتق طوال حياته السابقة بمثل هؤلاء ؟ هل كانوا يعيشون في نفق بعيداً عن العالم ؟ أم أنه هو نفسه لم ينتبه لوجودهم في غمرة حياته الروتينية المتخمة بالإنضباط والنظام والاخلاق العالية؟ واين يهرب منه الان القانون الذي آمن به طيلة عمره ؟ لماذا لا يمكن أن يقف القانون الآن بزي شرطي مرور أو سيارة نجدة ليحل مشكلة بسيطة مثل هذه نجمت عن إصطدام بسيط بين سيارته المتهالكة والسيارة الحديثة لصاحب المسدس ؟ لماذا لم يتمكن أحد ما من إيقافه قبل الحادث لأن سيارته الفارهة لم تكن تحمل لوحة تسجيل؟ ثم ما الذي سيحل بنا إذا صارت الاسلحة الحل الوحيد ؟ هل سننقرض كالديناصورات؟ صحيح أني لم أكن سائقاً ماهراً يوما ما لكنني واثق أنني لم أكن السبب في الحادث قدر ما كانت سرعته الجنونية .
هل يمكن لهذا الواقف أمامي منتفضاً مثل نمر أن يضغط الزناد بكل سهولة لينهي حياتي.
أية حياة ؟!
ومع الاطلاقات التي توالت راكضة الى رأس السيد صابر عبد الله كانت (طز) هائلة تشق الأفق مدوية هادرة حادة تتردد في الهواء لتغلف المكان بلعنة أبدية.
البصرة
2/ أيلول / 2010
العـــــــــودة للصفحـــة الرئيســــة – العــدد السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق