الجمعة، 22 أكتوبر 2010

تكست - العدد السابع: حياة آفلة ومعطوبة تحرسها أجنحة رحيمة


حياة آفلة ومعطوبة تحرسها أجنحة رحيمة


قراءة في مجموعة (عربة تحرسها الأجنحة)

*جميل الشبيبي


مجموعة القاص فرات صالح ( عربة تحرسها الأجنحة ) التي تتكون من كتابين صغيرين من المجاميع القصصية المؤثرة المعبرة تعبيرا صادقا عن أجواء الحرب وانعكاسها على الذات العراقية ، وعلى الرغم من أنها تقدم أحداثها بكثافة وتركيز عاليين فإنها تشكل إضاءة مؤثرة لمواطن الألم والعذاب الذي عشنا تفاصيله المرعبة أيام حروبنا الدامية ، والمجموعة تؤرخ لتلك الأيام ولتلك الكوابيس التي أحاطت بالذات فجعلتها وحيدة ، تعيش غربة قاتلة عن كل ممكنات الحياة الطبيعية البسيطة .ومن اجل إضاءة هذه الوحدة الموحشة وتركيز الضوء عليها استثمر القاص تقنيات الحذف والتكثيف والإقصاء لكل مظاهر الحياة الإنسانية الأليفة والاعتيادية ( الصداقة ، الحب ، العائلة ، الأمان ..) بالاستفادة من وقائع وأجواء هذه الحروب لإنارة غربة الذات ووحدتها في عالم مشاكس وجارح بل مميت . في قصة ( التمثال ) يجري حذف كل ما يفيد الألفة والحياة الطبيعية : الصحب تناثروا في الجبهات البعيدة ، الحبيبة غادرت مع عائلتها نحو مدينة أخرى ، صفاء سماء المدينة تحول إلى معزوفة ناشزة بأصوات القذائف والانفجارات المدوية ، فضاء المدينة خال من البشر ( أردت أن اخبره برغبتي في التجوال وحيدا في الشوارع الخالية ..) .يقابل هذا الإقصاء والحذف وجود مكثف لرموز الحرب : القصف وصوت الانفجارات المتكررة ، بنايات متخندقة وراء أكياس الرمل ، جنود يغطيهم التراب يغنون في الشاحنات بكاء ابنة الجيران الصغيرة الذي لا ينقطع . وفي القصص الأخرى المتضامنة مع هذه القصة تبلغ إستراتيجية الحذف والإقصاء أقصاها حين تجد الذات المحاصرة بالحرب نفسها وهي وحيدة ومعزولة وغير راغبة بأي شئ :(أنا منذ شهور فاقد الرغبة في كل شئ ، لان كل شئ لم يعد يثيرني (...) لا افعل شيئا سوى الاستلقاء في السرير مفتوح العينين محدقا في السقف ..) ويتضح للقارئ أن فقدان الرغبة في كل شيئ لم يكن بطرا أو اختيارا ذاتيا وإنما هو واقع مفروض من خارج مشاكس يعمل على إقصاء كل ما هو أنساني في حياة الذات والمحيطين بها .ويمكن استنتاج ذلك من تصريحات ساردي القصص وشخوصها حين يتحدثون مع نفوسهم ولنفوسهم وهذا مشخص في معظم قصص القسم الأول من المجموعة : ( إنني أعيش وحيدا ولا جيران لي غير جامع لا يؤمه سوى مؤذن واحد) - قصة رجل داخل مكعب -



.

وتبلغ الوحدة والوحشة بل الغربة المفروضة أقصاها في قصة (العودة إلى المنزل ) حين يفاجئ ساردها بحذف كل علاقاته السابقة ، فيصرح : ( إنني لم التق أحدا طوال الطريق حتى وصولي إلى منزلي ، لا حراس ، لا كلاب ونظرت الى السماء فلم أر أثرا لنجمة واحدة ..) وعندما يدخل منزله في هذا الظلام الدامس يجد ( زوجته عارية على الأرض وثدياها قد اقتلعا من مكانهما بفعل آلة وحشية ) أما البديل لعائلته فهو كلب هائل الحجم ينزل السلم عيناه حلقتان من نار ، أنيابه البيض تحمل أثار الدم !!



إن إقصاء الأشياء الأليفة بأفعال خارجية رادعة ومهينة للذات ، والحضور المشخص والمكثف لأدوات القهر والعذاب ، يمثل في هذه المجموعة منحى قارا ومؤكدا باتجاه تكريس فضاعة الحرب وابتلاء الناس بها كقدر طاغ ورادع لكل ما يسمى حياة إنسانية وديعة وآمنة ، وتبلغ الذروة في قصة ( عربة تحرسها الأجنحة ) التي تميل الى تشخيص حالة فردية تتعلق بفتاة بلهاء تتعرض للاغتصاب من رجال مجهولين _ يقصيهم القاص ويبقي على جريمتهم – ويكون نتيجة ذلك قتلها غسلا للعار ، لتضيف للقصة العراقية لمسة فنية وإنسانية مؤثرة تتعلق بهذه الثيمة التي استثمرتها العديد من القصص العراقية اذكر من هذه القصص قصتين بلغتا قمة في التشكيل الفني والجمالي والتأثير الإنساني البليغ هما : لاوفيليا جسد الأرض للروائي عبد الإله عبد الرزاق وقصة نهر الجنوب للقاص فهد الاسدي وتأتي هذه القصة المكثفة والمؤثرة لتضيف بعدا فنيا وجماليا وإنسانيا لهذه الثيمة .



في هذه القصة تبدو عربة العمل الصغيرة التي تحمل جثة فتاة قتيلة ومشاهد القصة القصيرة العشرة تحيل الى حدث فردي مشخص لكنه يرتفع في تاويله الى رتبة العام ، حين تبدو العربة في حركتها البطيئة وهي تجتاز الحفر والخنادق وكأنها عربة الحياة في اندفاعها في هذه الطرق الوعرة وهي تحمل حياة خامدة ميتة أما الأجنحة الخفية التي تحرسها فهي أجنحة الرحمة على حياة آفلة غذاها القاص باقصاءاته وحذوفاته لكل حياة طبيعية باتجاه إدانة مريرة للحرب وويلاتها ،



وفي قصة ( انتظار ) يحيط شخوص القصة الفزع والخوف وهم يترقبون أخبارا عن أولادهم الغائبين لكن ذلك لا يثمر سوى الغبار المتراكم ، وهجرة الطيور الجماعية من أفق القرية وعندها يتوجهون الى مغتسل الموتى ( يسحبون الغبار خلفهم ) حاملين صور أولادهم الغائبين ( وجلسوا واجمين في انتظار الخبر الأكيد ) فلم يجدوا سوى أرواح أولادهم الغائبين تحوم حولهم مثيرة غبارا كثيفا يدور في الأعالي ثم ينزل حتى يلامس الرؤوس .



في الكتاب الثاني من المجموعة يستكمل القاص بناء عالمه الذي خربته الحرب ، بقصص قصيرة جدا يتم فيها حذف كل التفاصيل التي جسدتها قصص الكتاب الأول باتجاه تسليط أضواء كاشفة على مفارقات بسيطة ولكنها دالة على أزمة عميقة في الذات الإنسانية ، وهي بجملها إضافات غنية بالإيحاءات والدلالات بما يعكس هذه الازمة ويشير بشكل خفي الى اسبابها ، من هذه المفارقات : رحيل جندي من ملجاه باتجاه صوت ناي خافت تحت انظار القمر الذي كان يبتسم له ، او حكاية جندي يمسك ببندقيته ( التي استحالت انبوبا ثلجيا ) ويملا كرسيا فارغا بالأحبة والأصدقاء ( الذين كانوا بعيدين جدا عنه ) ويحاورهم ويمازحهم ثم يكتشف انه كرسي فارغ .وفي قصة ( شارع الجثث الاليفة ) يرى السارد اعدادا هائلة من الجثث ممددة الى جانبه وعندما يدقق النظر في وجوهها يكتشف انها رغباته .



تسرد معظم قصص المجموعة بلسان سارد يعيش الحدث باعتباره الشخصية الرئيسة في القصة مما يعني أن التبئير أو وجهة النظر تبدأ بذات مأزومة ومعزولة عن عالمها الأليف وهي تبني عالما مشاكسا بتفاصيل وإحداث من الحرب تؤكد هذا العالم وتغذي وجوده. وهناك قصص أخرى تحاول أن تحيط بنفس هذا العالم الافتراضي ولكن من زوايا نظر متعددة وبهذا المعنى فان القاص فرات صالح يعمد إلى تشخيص عالم تحكمه العلاقات الفنتازية عالم يبدو خياليا صادما بوقائع حياتية مشخصة من الحرب ،فالحرب إطار يحيط بالشخصية أو الشخصيات ويجعل وجهة النظر تتجه مباشرة نحو تأسيس عالم من الرعب والإرهاب تجد الذات نفسها مقذوفة فيه ، وهي إذ تحاول الهروب من هذا الواقع فان هذا الإطار يحكم سيطرته وسطوته على الشخصية التي تختنق في مثل هذا الجو الرهيب محاولة الخلاص باتجاه بديل خيالي كالسكن في أعماق الشط هو وحبيبته كما في قصة ( التمثال ) وفي قصة ( عربة تحرسها الاجنحة ) يبدو الحل بالحركة الدائبة البطيئة وسط مظاهر الحرب ودمارها باتجاه أفق مجهول علما أن العربة تحمل جسدا فاقدا للحياة .



أخيرا نكرر ما قلناه من أن هذه المجموعة الصغيرة الموحية تؤسس عالما دالا على عذابات الإنسان العراقي زمن حروبنا الدامية وتدعو إلى رفض الحرب وحذفها من خارطة التفكير الإنساني .



* ناقد عراقي



العـــــــــودة للصفحـــة الرئيســــة – العــدد السابع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق