إغتيال حــــلم
جاسم عاصي
قيل الكثير عن فن ( القصة القصيرة جداً ) ولم يبتعد كل ما قيل عن خصوصية هذا الفن ، ولكن ما لم يقله الكثيرون يبقى حلم القراءة المتواصلة لنماذج هذا الفن الجميل ، الذي اجتهد فيه الكُتّاب وبرعوا في تطويره واختيار خصوصياته واجتراحاته . وهذا بالتأكيد يصب في مشروع تستقبل مفرداته كل الفنون والأجناس . فالقصة هذه ابتداء من ( ناتالي ساروت ) وصولاً إلى ( فرات صالح ) لم تتخلص من لعبة التجريب ومن ثم الإضافة . فالقصة مشروع للبناء ، وأرى أنها تبقى كذلك ، لأن العقل البشري قادر على اجتياز كل ما قد يعوّق مسيرة الفن ، دونما صراع مؤكَد . نحن جميعاً تصفحنا ما كتبه كل من ( محمد عيتاني ، زكريا تامر ، محمود شُقير ، إبراهيم أحمد ، أحمد خلف ، جماعة بقعة زيت ، حنون مجيد ، حسب الله يحيى ، هيثم بهنام بردى ، جمال نوري ، جليل القيسي ، محسن الخفاجي ) فتعددت لدينا الرؤى المتعلقة بفن ومشغوليات هذا الضرب من القص . لكننا لم نقف على الخصوصية الذاتية للكتّاب أولاً ، وبهذا افتقدنا قابلية رصد التجربة من منظور يؤكد فعالية هذا الفن ، كذلك لم نؤكد على خاصية واحدة مهمة لهذا القص ثانياً ، وهي خاصية عكس الشعور الذاتي بالمشهد ، وهذا يقود بطبيعة الحال إلى قدرة المنتِج على التكثيف واستعمال اللغة والسرد على نحو متغيّر وهادف . الشعور هذا يقود أيضاً إلى وحدة الموضوع ، فالفن هذا لا يحتمل الأفكار المتعددة ، ولا يبني معماره على حساب معمار لفن آخر ، فمن خصوصيته في هذا ينطلق وإليها يذهب . وهذا الذهاب هو الذي يؤكد ويرسخ الممارسة والخصوصية الذاتية لينتِج النص . وأرى في هذا أنها نوع من الدربة التي تعتمد على جانب خـُلْـقي ينتج ـ موهبة ـ لذا نرى أن مشاريع كثيرة في القص مارست الكتابة في هذا الفن ، لكنها فشلت . وفي العودة إلى مركز هذه المداخلة ، نؤكد على الموهبة وإمكانية تطويعها . فالقاص ـ القصير ـ جداً ( فرات صالح ) لا يستطيع التخلص من موهبته التي تؤكد على أنه لا يتمكن من كتابة غير نص من هذا النوع . على الرغم من كبحه لجماح خيوله المتـأهبة للانطلاق .وهذا الاستنتاج متأت فقط من رصد ما كتبه في مجموعته ( عربة تحرسها الأجنحة ) واشتراكه في كتابي ( بقعة زيت ، ذاكرة المقهى ) ولا شأن لنا بما كتبه واحتفظ به في درج مكتبته ، أو نشره ولم نطلع عليه . وهذا فشل مسؤوليته تقع على عاتقنا كقرّاء .
أؤكد أن ( فرات صالح ) لا يستطيع التخلص من حيثيات هذا الفن ، وإن حاول في بعض قصصه أن يطيل الصفحات ، غير أنه يحافظ على وحدة موضوع هذا الضرب من الكتابة . هذا من جهة ومن جهة أخرى نجد أن العبارة التي افتتحنا بها الورقة ( اغتيال حلم ) حضرت في ذهني جرّاء القراءات الكثيرة لما وقع بين يديّ من نماذج قصصية للقاص ، فوجدتها ترصد حالات الانتهاك والاغتيال للأحلام فقط ، وهذه الحالة تتشعب أسبابها ، وتنحصر في مجريين هما : الاغتيال السياسي وتأثيرات الحروب . ونص ( فرات ) يقع بين هذين المؤثرين ، فهو يحافظ دائماً على بنية تشكّل النص ، ثم يعبّر بقوة عن المشهد الذي خلفته الأحداث والحقب ذات النمط السلبي في التعامل مع الآخرين ، مخلّفة بذلك وجهاً من وجوه الاضطهاد ، والتطاول على ملكية عزيزة على الإنسان ، ألا وهي الحرية وحق العيش بسلام ، والرغبة في التمتع بمباهج الحياة ، عبر إطلاق إمكانية الإنسان في بناء الحياة وتطويرها بمنظور جمعي . بمعنى فسح المجال أمام تعدد الرؤى في النظر إلى مجريات الواقع وبناء المستقبل . وهذا ـ كما يرى فرات ـ لا يروق للسياسي الذي أصبح عقدة الوجود ، لأنه ذهب بعيداً ، وتمسك بكل شيء يتعلق بطموحاته ، متناسياً رغبة الآخرين في العيش ، فقد أسدل على تاريخ الفرد والجماعة الستارة .
من هذا يمكننا النظر إلى قصص ( فرات ) على أنها وجه آخر للحياة بكل اضطراباتها وخللها . وهي جميعاً ممارسة فنية عالية من أجل عكس الوجود المنتهَك ، والمصادرة لأسسه . فاغتيال الحلم ليس بالأمر الهيّن ، لأنه أساسا ً يشكّل ـ أي الحلم ـ بنية منبثقة عن رؤية واسعة تدربت على الجدل في الاختيار ، وكان معيارها الصالح والطالح دون اغتيال أحلام الآخرين من أجل تحقيق حلمها . لذا يمكن اعتبارها قياسا ً إلى خلل الرؤى الأخرى ؛ أنها رؤية مثالية ، غير أنها رؤية مكللة بالصالح ومعنية بتعميقه ووأد الطالح . إن رؤية القاص للواقع محفوفة برؤية الحلم ، ورؤى الحلم تتداخل فيها أحلام الشعر . لذا فقد كانت لغته تخاطب الآخر بلغة الشعر ، وهي أسمى الخطابات وأنقاها . كذلك يحاول جادا ًأن يركز على الأفعال الصغيرة التي تقود بنتائجها إلى الأفعال الكبيرة والمتعددة . ففعله يحتمل التشظي الموضوعي الإيجابي ، ويستقبل غير الممكن بحساب وعدم حساب الممكن . فهو يعمّق الفعل ورد الفعل بكثافة ورصد نبه ، مستند إلى حصيلة فنية ، تقول بعدم التفريط بالتركيز على حساب التوسع في رقعة الثيمة . إذ كيف لا وهو قارئ لقصص الرائد ( محمود عبد الوهاب ) بالتأكيد ، لا سيّما ما ضمته مجموعته ( رائحة الشتاء ) ولعل قصص مثل ( النافذة ، الساحة ، عابر استثنائي ) درس بليغ في كتابة القصة ، والقصة القصيرة جدا ً .
عموما ً استغل الحيّز المتاح لي في ملف يرغب الجميع في المشاركة فيه لأذكر أن القاص ( فرات صالح ) شأنه شأن كل القصاصين ، يطمح إلى أن يؤكد ويؤصل طابعه في كتابة هذا النوع من الفن . فقد سبقه الكثيرون في ذلك ، وكانت لهم بصماتهم التي تؤكد في جملة ما تؤكده على أن هذا الفن له قدرة استقبال التجارب في الكتابة ، مع الاحتفاظ بوحدة النص التي بذل كل الكُتّاب جهدهم في المحافظة عليها ، وعلى رأسهم القاص ( محمود شُقير ) وحصراً في آخر مجموعة له ( مرور خاطف ) .
*قاص وناقد عراقي
العـــــــــودة للصفحـــة الرئيســــة – العــدد السابع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق